فصل: الباب الرابع من المقالة التاسعة في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الباب الرابع من المقالة التاسعة في الهدن الواقعة بين ملوك الإسلام وملوك الكفر:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في أصول تتعين على الكاتب معرفتها:

وفيه ثلاثة أطراف:

.الطرف الأول في بيان رتبتها ومعناها وذكر ما يرادفها من الألفاظ:

أما رتبتها فإنها متأخرة- عند قوة السلطان- عن عقد الجزية: لأن في الجزية ما يدل على ضعف المعقود له، وفي الهدنة ما يدل على قوته.
وأما معناها فالمهادنة في اللغة المصالحة؛ يقال: هادنه يهادنه مهادنة إذا صالحه؛ والاسم الهدنة. وهي إما من هدن بفتح الدال يهدن بضمها هدونا إذا سكن، ومنه قولهم: هدنة على دخن. أي سكون على غلٍ، أو تكون قد سميت بذلك لما يوجد من تأخير الحرب بسببها.
ويرادفها ألفاظ أخرى: أحدها الموادعة، ومعناها المصالحة أيضاً، أخذاً من قولهم: عليك بالمودوع: يريدون بالسكينة والوقار، فتكون راجعةً إلى معنى السكون.
وإما أخذاً من توديع الثوب ونحوه: وهو جعله في صوان يصونه، لأنه بها تحصل الصيانة عن القتال. وإما أخذاً من الدعة: وهي الخفض والهناء، لأن بسببها تحصل الراحة من تعب الحرب وكلفه.
الثاني- المسالمة ومعناها ظاهر: لأن بوقوعها يسلم كل من أهل الجانبين من الآخر.
الثالث- المقاضاة، ومعناها المحاكمة مفاعلة من القضاء بمعنى الفصل والحكم.
الرابع- المواصفة، سميت بذلك لأن الكاتب يصف ما وقع عليه الصلح من الجانبين. على أن الكتاب يخصون لفظ المواصفة بما إذا كانت والمواصفة بما إذا كانت المهادنة من الجانبين، ولا شك أن ذلك جارٍ في لفظ الموادعة والمسالمة والمقاضاة أيضاً: لأن المفاعلة لا تكون إلا بين آثنين إلا في ألفاظ قليلة محفوظة، على ما هو مقرر في علم العربية.
أما لفظ الهدنة فإنه يصدق أن يكون من جانب واحد، بأن يعقد الأعلى الهدنة لمن هو دونه. على أنها عند التحقيق ترجع إلى معنى المفاعلة، إذ لا تتصور إلا من آثنين.
وأما في الشرع فعبارة عن صلح يقع بين زعيمين في زمن معلوم بشروط مخصوصة، على ما سيأتي بيانه فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
والأصل فيها أن تكون بين ملكين مسام وكافر، أو بين نائبيهما، أو بين أحدهما ونائب الآخر. وعلى ذلك رتّب الفقهاء رحمهم الله باب الهدنة في كتبهم. قال صاحب مواد البيان: وقد يتعاقد عظماء أهل الإسلام على التوادع والتسالم وآعتقاد المودة والتصافي، والتوازر والتعاون، والتعاضد والتناصر، ويشترط الأضعف منهم للأقوى تسليم بعض ما في يده والتفادي عنه بمعاطفته والإنقياد إلى أتباعه، والطاعة والإحترام في المخاطبة، والمجاملة في المعاملة، أو الإمداد بجيشٍ، أو آمتثال الأوامر والنواهي وغيرها مما لا يحص.
قلت: وقد يكون الملكان متساويين في الرتبة أو متقاربين، فيقع التعاقد بينهما على المسالمة والمصافاة، والموازاة والمعاونة، وكف الأذية والإضرار وما في معنى ذلك، دون أن يلتزم أحدهما للآخر شيئاً يقوم به أو إتاوةً يحملها إليه؛ ولكل مقام مقال، والكاتب الماهر يوفي كل مقام حقه، ويعطي كل فصل من الفصول مستحقه.

.الطرف الثاني في أصل وضعها أما مهادنة أهل الكفر:

فالأصل فيها قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} الآية، وقوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}.
وما ثبت في صحيح البخاري من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه، أن قريشاً وجهت إلى النبي صلى اله عليه وسلم وهو بالحديبية- حين صده قريش عن البيت- سهيل بن عمرو، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هات اكتب بيننا وبينك كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتب إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب: «باسمك اللهم» - ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» - فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك؛ ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على أن تخلوا بيننا وبين هذا البيت فنطوف به» - فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا قد أخذنا ضغطةً، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب- قال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا- قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً! فبينما هم كذلك، إذ جاء أبو الجندل يرسف في قيوده، وقد خرج من مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين- فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نقض الكتاب بعد» - قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي» - ما أنا بمجزيه لك- قال: «بلى فافعل» - قال ما أنا بفاعل. قال مكرز بن حفص: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين: أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله تعالى. قال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: «بلى!» قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال «بلى!» قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري» قلت: هذا ما أورده البخاري في حديث طويل. والذي أورده أصحاب السير أن الكاتب كان علي بن أبي طالب، وأن نسخة الكتاب: «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو،» اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأشهد في الكتاب من المسلمين والمشركين على الصلح رجالاً.

.الطرف الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته في كتابة الهدن:

قال في مواد البيان: وهذا الفن من المكاتبات له من الدولة محل خطير، ومن المملكة موضع كبير ويتعين على الكاتب أن يخلي له فكره، ويعمل فيه نظره، ويتوفر عليه توفراً يحكم مبانيه، ويهذب معانيه.
والذي يلزم الكاتب في ذلك نوعان:
النوع الأول: ما يختص بكتابة الهدنة بين أهل الإسلام وأهل الكفر:
وهي الشروط الشرعية المعتبرة في صحة العقد بحيث لا يصح عقد الهدنة مع إهمال شيء منها. وهي أربعة شروط:
الأول- في العاقد. ويختلف الحال فيه باختلاف المعقود عليه: فإن كان المعقود عليه إقليمياً: كالهند والروم ونحوهما، أو مهادنة الكفار مطلقاً، فلا يصح العقد فيه إلا من الإمام الأعظم أو من نائبه العام الموفض إليه التحدث في جميع أمور المملكة. وإن كان على بعض القرى والأطراف، فلآحاد الولاة المجاورين لهم عقد الصلح معهم.
الثاني- أن يكون في ذلك مصلحة للمسلمين: بأن يكون في المسلمين ضعف أو في المال قلة، أو توقع إسلامهم بسب آختلاطهم بالمسلمين، أو طمع في قبولهم الجزية من غير قتال أو إنفاق مال. فإن لم تكن مصلحة فلا يهادنون بل يقاتلون حتى يسلما أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها.
الثالث- أن لا يكون في العقد شرط يأباه الإسلام: كما لو شرط أن يترك بأيديهم مال مسلم، أو أن يرد عليهم أسير مسلم انفلت منهم، أو شرط لهم على المسلمين مال من غير خوف على المسلمين، أو شرط رد مسلمة إليهم، فلا يصح العقد مع شيء من ذلك، بخلاف ما لو شرط رد الرجل المسلم أو المرأة الكافرة فإنه لا يمنع الصحة. قال الغزالي: وقد جرت العادة أن يقول: نهادنكم على أن من جائكم من المسلمين رددتموه، ومن جاءنا مسلماً رددناه. فإن كان في المسلمين ضعف وخيف عليهم، جاز التزام المال لهم دفعاً للشر، كما يجوز فك الأسير المسلم إذا عجزنا عن انتزاعه.
الرابع- أن لا تزيد مدة الهدنة عن أربعة أشهر عند قوة المسلمين وأمنهم، ولا يجوز أن تبلغ سنةً بحال؛ وفيما دون سنة وفوق أربعة أشهر قولان للشافعي رضي الله عنه، أصحهما أنه لا يجوز، أما إذا كان في المسلمين ضعف وهناك خوف، فإنه تجوز المهاجنة إلى عشر سنين؛ فقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين كما رواه أبو داود في سنته. ولا تجوز الزيادة عليها على الصحيح؛ وفي وجهٍ تجوز الزيادة على ذلك للمصلحة.
فلو أطلق المدة فالصحيح من مذهب الشافعي أنها فاسدة؛ وقيل: إن كانت في حال ضعف المسلمين حملت على عشر سنين، وإن كانت في حال القدرة: فقد قيل تحمل على الأقل: وهو أربعة أشهر، وقيل على الأكثر: وهو ما يقارب السنة. ولو صرح بالزيادة على ما يجوز عقد الهدنة عليه: فإن زاد على أربعة أشهر في حال القوة أو على عشر سنين في حال الضعف صح في المدة المعتبرة وبطل في الزائد؛ فإن احتيج على الزيادة في العشر، عقد على عشر ثم عشر ثم عشر قبل تقضي الأولى؛ قاله الفوراني وغيره من أصحابنا الشافعية. وذهب أصحاب مالك رحمهم الله إلى أن مدتها غير محدودة، بل يكون موكولاً إلى اجتهاد الإمام ورأيه.
النوع الثاني: ما تشترك فيه الهدن الواقعة بين أهل الكفر والإسلام وعقود الصلح الجارية بين زعماء المسلمين:
وهي ضربان:
الضرب الأول: الشروط العادية للهدنة:
الشروط العادية التي جرت العادة أن يقع الاتفاق عليها بين الملوك في كتابة الهدن خلا ما تقدم وليس لها حد يحصرها ولا ضابط يضبطها بل بحسب ما تدعو الضرورة إليه في تلك الهدنة بحسب الحال الواقع، فمن ذلك- أن يشترط عليه أن يكون لوليه موالياً، ولعدوه معادياً، ولمسالمه مسالماً، ولمحاربه محارباً، ولا يواطيء عليه عدواً، ولا يوقع عليه صلحاً، ولا يوافق على ما يقدح في أمره، ولا يقبل سؤال سائل، ولا بذل باذل، ولا رسالة مراسل مما يخالف الاتفاق الجاري، والأخذ على يد من سعى في نقض الصلح ونكث العهد إن كان من أهل طاعته، والمقابلة إن كان من المخالفين له، وأنه إذا جنى من أهل مملكتهم جان كان عليه إحضالاه أو الأخذ منه بالجناية.
ومن ذلك- أن يشترط عليه أن يكف عن بلاده وأعماله، ومتطرف ثغوره، وشاسع نواحيه- أيدي الداخلين في جماعته، والمنضمين إلى حوزته ولا يجهز لهجيشاً، ولا يحأول لها غزواً، ولا يبدأ أهلها بمنازعة، ولا يشع لهم في مقارعة، ولا بتناوبهم بمكيدة ظاهرة أو باطنة، ولا يعاملهم بأذية جلية ولا خفية، ولا يطلق لأحد ممن ينوب عن في إمارة جيشه، ومن ينسب إلى جملته، ويتصرف على إرادته- عناناً إلى شيءٍ من ذلك بوجهٍ من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، وأن لا يجاوز حدود مملكته إلى المملكة الأخرى بنفسه ولا بعسكر من عساكره.
ومن ذلك- أن يشترط عليه أن يفرج عليه عمن هو في حوزته ممن أحاطت به ربقة الأسر ويمكنهم من المسير إلى بلادهم: بأنفسهم وخدمهم وعيالهم وأتباعهم، وأصناف أموالهم، في أتم حراسةٍ، وأكمل خفارة، دون كلفة ولا مؤونة تلحقهم على إطلاقهم، ونحو ذلك.
ومن ذلك- أن يشترط عليه مالاً يحمله إليه في كل سنة، أو أ، يسلم إليه ما يختاره: من حصون وقلاع وأطراف وسواحل مما وقع الاستيلاء عليه من بلاد المسلمين، أو أحب انتزاعه أو استضافته من بلاد من يهادنه من ملوك الكفر، وأن يبقي من بها من أهلها، ويقررهم فيها بحرمهم وأولادهم ومواشيهم وأزو ادهم وسلاحهم وآلاتهم، دون أن يلتمس عن ذلك أو عن شيء منه مالاً، أو يطلب عنه بدلاً، وما ينخرط في هذا السلك.
ومن ذلك- أن يشترط عليه عدم التعرض لتجار مملكته، والمسافرين من رعيته، براً وبحراً بنوع من أنواع الأذية والإضرار، في أنفسهم ولا في أموالهم، وللمجاورين للبحر عدم ركوب المراكب الحربية التي لا يعتاد التجار لركوب مثلها.
ومن ذلك- أن يشترط عليه إمضاء ما وقعت عليه المعاقدة، وأ، لا يرجع عن ذلك ولا عن شيء منه، ولا يؤخر شيئاً عن الوقت الذي اتفق عليه.
ومن ذلك- أن يشترط عليه أنه إذا بقي من مدة الهدنة مدة قريبة مما يحتاج إلى التعبيء فيه، أن يعلمه بما يريد من مهادنة أو غيرها. ومن ذلك- أن يشترط عليه أنه إذا انقضى أمد الهدنة على أحد من الطائفين وهو في بلاد الآخرين، أن يكون له الأمن حتى يلحق ما منه.
ومن ذلك- أن يشترط مالاً يحمله إليه في الحال أو في كل سنة، أو حصونا، أو بلاداً يسلمها من بلاده، أو مما يغلب عليه من بلاده مهادن، إلى غير ذلك من الأمور التي يجري عليها الاتفاق مما لا تحصى كثرةً.
الضرب الثاني مما يلزم الكاتب في كتابة الهدنة: تخير أوضاعها وترتيب قوانينها وإحكام معاقدها:
وذلك باعتماد أمور:
منها- أن يكتب الهدنة فيما يناسب الملك الذي تجري الهدنة بينه وبين ملكه؛ ولم أر من تعرض في الهدن لمقدار قطع الورق، وإن كثرت كتابتها في الزمن المتقدم بين ملوك الديار المصرية وبين ملوك الفرنج، كما سيأتي ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. والذي ينبغي أن يراعى في ذلك مقدار قطع الورق الذي يكاتب فيه الملك الذي تقع الهدنة معه: من قطع العادة أو الثلث أو النصف.
ومنها- أن يأتي في ابتدائها ببراعة الاستهلال: إما بذكر تحسين موقع الصلح والندب إليه ويمن عاقبته، أو بذكر السلطان الذي تصدر عنه الهدنة، أو السلطانين المتهادين، أو الأمر الذي ترتب عليه الصلح، وما يجري هذا المجرى مما يقتضيه الحال ويستوجبه المقام.
ومنها- أن يأتي بعد التصدير بمقدمة يذكر فيها السبب الذي أوجب الهدنة ودعا إلى قبول الموادعة.
فإن كانت الهدنة مع أهل الكفر، احتج للإجابة إليها بالائتمار بأمر القرآن والانقياد إليه، حيث أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمطاوعة على الصلح والإجابة إلى السلم بقوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}، وما وردت به السنة، من مصالحته صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية، وذكر ما سنح له من آيات الصلح وأحاديثه، وما جرى عليه الخلفاء الراشدون من بعده، وكفهم عن القتال وقوفاً عند ما حدّ لهم، وأنه لولا ذلك لشرعوا الأسنة إلى مخايفيهم في الدين، وركضوا الجياد إلى جهاد من يليهم من الملحدين.
وإن كان الصلح بين المسلمين احتج بنحو قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، وبأحاديث التحذير من تقاتل المسلمين كقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار» وما يجري هذا المجرى.
ومنها- أن يراعي المقام في تبجيل المتهادين أو أحدهما بحسب ما يقتضيه الحال، ووصف كل واحد منهما بما يليق به: من التعظيم، أو التوسط، أو انحطاط الرتبة بحسب المقام، ويجري على حسب ذلك في الشدّة واللين.
فإن كانت الهدنة بين متكافئين سوّى بينهما في التعظيم، وجرى بهما في الشدّة واللين على حدٍّ واحد، إلا أن يكون أحدهما أسنّ من الآخر، فيراعي للأسنّ ما يجب على الحدث من التأدب معه، ويراعي للحدث ما يجب له على الكبير من الحنوّ والشّفقة.
وإن كانت الهدنة من قوي لضعيفٍ، أخذ في الاشتداد، آتياً بما يدل على علوّ الكلمة، وانبساط القدرة، وحصول النصرة، واستكمال العدد، وظهور الأيد، ووفور الجند، وقصور الملوك عن المطأولة، وعجزهم عن المحاولة، ونحو ذلك مما ينخرط في هذا السلك، لا سّيما إذا كان القوي مسلماً والضعيف كافراً، فإنه يجب الازدياد من ذلك، وذكر ما للإسلام من العزة، وما توالى له من النصرة، وذكر الوقائع التي كانت فيها نصرة المسلمين على الكفار في المواطن المشهورة، والأماكن المعروفة، وما في معنى ذلك.
وإن كانت الهدنة من ضعيف لقوي، أخذ في الملاينة بحسب ما يقتضيه الحال، مع إظهار الجلادة وتمسك القوة، خصوصاً إذا كان القوي المعقود معه الهدنة كافراً. وإن شرط له مالاً عند ضعف المسلمين للضرورة أتى في كلامه بما يقتضي أن ذلك رغبة في الصلح المأمور به، لا عن خور طباعٍ وضعف قوة؛ إذ الله تعالى يقول: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم}.
ومنها- أن يتحفظ من سقط يدخل على الشريعة نقيصة، إن كانت المهادنة مع أهل الكفر، أو يجر إلى سلطانه وهيصةً، إن كانت بين مسلمين؛ ويتحذر كل الحذر من خلل يتطرق إليه: من إهمال شيء من الشروط، أو ذكر شرط فيه خلل على الإسلام أو ضرر على السلطان، أو ذكر لفظ مشترك أو معنى ملتبس يوقع شبهة توجب السبيل إلى التأول، وإن يأخذ المأخذ الواضح الذي لا تتوجه عليه معارضة، ولا تتطرق إليه مناقضة، ولا يدخله تأويل.
ومنها- أن يبيّن أن الهدنة وقعت بعد استخارة الله تعالى وتروية النظر في ذلك وظهور الخير فيه، ومشاورة ذوي الرأي وأهل الحجى، وموافقتهم على ذلك.
ومنها- أن يبين مدة الهدنة. فقد تقدّم أن الصحيح من مذهب الشافعي أنه إذا لم تبين المدة في مهادنة أهل الكفر فسدت الهدنة.
قال في التعريف: وقد جرت العادة أن يحسبها مدة سنين شمسية فيحرّر حسابها بالقمرية. ويذكر سنين وأشهر وأياماً وساعات حتى يستوفي السنين الشمسية المهادن عليها. أما في عقد الصلح بين مسلمين فإنه لا يشترط ذلك، بل ربما قالوا: إن ذلك صار لازماً للأبد، حتى في الولد وولد الولد.
ومنها- أن يبين أن الهدنة وقعت بين الملكين أنفسهما؛ أو بين نائبيهما، أو بين أحدهما ونائب الآخر، ويستوفي ما يجب لكل قسم منها.
فإن كانت بين الملكين أنفسهما بغير واسطة بين ذلك، ذكر ما أخذ عليهما من العهود والمواثيق، والإيمان الصادرة من كل منهما، وذكر ما وقع من الإشهاد بذلك عليهما، وما جرى من ثبوت حكمه إن جرى فيه ثبوت ونحو ذلك.
وإن كانت بين المكتوب عنه ونائب الآخر، بين ذلك، وتعرض إلى المستند في ذلك: من حضور كتاب من الملك الغائب، بتفويض الأمر في ذلك إلى نائبه، وأنه وصل على يده أو يد غيره، والإشارة إلى أنه معنون بعنوانه، مختوم بختمه المتعارف عنه أو وكالة عنه. ويتعرض إلى قيام البينة بها وثبوتها بمجلس الحكم ونحو ذلك من المستندات.
وأن بين نائبين، بين ذلك وذكر مستند كل نائب منهما على ما تقدم ذكره. ويتعرض إلى النائب في ذلك قام فيه باختياره وطواعيته، لا عن إكراه ولا إجبار، ولا قسرً ولا غلبة، بل لما رأى لنفسه ولمستنيبه في ذلك من المصلحة والحظ، وإن كتاب الهدنة قريء عليه وبين له فصلاً فصلاً، وترجم له بموثوق به، إن كان لا يعرف العربية ونحو ذلك.
ومنها- أن يتعرض إلى ما يجري من التحليف في آخرها: على الوفاء، وعدم النكث والإخلال بشيء من الشروط، أو الخروج عن شيء من الإلتزامات، أو محاولة التأويل في شيء من ذلك، أو السعي في نقضه أو في شيء منه، وما في معنى ذلك: فإن كانت بين ملكين، تعرض إلى تحليف كل منهما على التوفية بذلك.
وإن كانت بين أحدهما ونائب الآخر، حلف الملك كما تقدم؛ وستأتي صورة الحلف الذي يقع في الهدن في الكلام على الأيمان فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
ومنها- أن يحرر أمر التاريخ بالعربي وما يؤرخ به في مملكة الملك المهادن: من السرياني والرومي وغيرهما. قال في التعريف: ولهم عادة أن يحسبوها مدة سنين شمسية فيحرر حسابها بالقمرية، ويذكر سنين وأشهر وأياماً وساعات حتى يستكمل السنين الشمسية المهادن عليها. وقد تقدم في الكلام على التاريخ من المقالة الثالثة كيفية معرفة التواريخ واستخراجها. ومنها- أن يقع الإشهاد على كل من المتعاقدين بذلك، ولا بأس بإثبات ذلك. وقد جرت العادة أنه يشهد على كل ملك جماعة من أهل دولته ليقضى على ملكهم بقولهم وإن كان مخالفاً في الدين. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: أشهد على مصلحته مع قريش رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين. وربما طلب النائب عن الملك الغائب إحضار نسخة مهادنة من جهة مستنيبه على ما وقع به العقد، مشمولة بخط الكتاب، مشهوداً عليه فيها بأهل مملكته، أو تجهز إليه نسخة يكتب عليها خطه، ويشهد عليه فيها أهل مملكته.
والغالب الاكتفاء بالرسل في ذلك.